فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (34):

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}.
يقول الله جل ذكره: لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة آيات تبيّن لكم ما بكم الحاجة إلى بيانه من الأحكام والحدود والشرائع، وأنزلنا لكم فيها مثلا وقصة عجيبة من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم، وموعظة ينتفع بها المتقون.
فما تقدم من أول السورة إلى هنا يشتمل على آيات ذكر فيها الحدود والأحكام الشرعية، وعلى قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف وقصة مريم عليهما السلام، حيث اتهما بما اتهمت به عائشة رضي الله عنها من الإفك، فبرأهما الله، وعلى مواعظ وزواجر مثل قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] وقوله جل شأنه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 12] إلخ.
وقال بعض العلماء المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن الكريم من الآيات والأمثال والمواعظ.

.تفسير الآية رقم (58):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)}.
روي أنّ أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فنزلت هذه الآية.
وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو، فدخل وعمر نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أنّ الله عزّ وجلّ نهى آبائنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية، فخرّ ساجدا شكرا لله.
وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنّه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجون إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن، بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} الآية، فإذا صحّ أنّ سبب النزول قصة أسماء المتقدمة كان قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطابا للرجال والنساء بطرق التغليب، لأنّ دخول سبب النزول في الحكم قطعي كما هو الراجح في الأصول.
وقد يقال: الأمر في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} للمملوكين والصغار، وكيف يؤمر الصبي الذي لم يبلغ الحلم، ولا تكليف قبل البلوغ؟
والجواب من وجهين:
الأول: أن الأمر وإن كان كذلك في الظاهر، لكنّه في الحقيقة للمخاطبين، فهم أمروا أن يأمروا مماليكهم وصبيانهم بالاستئذان، وإلى هذا المعنى يرشد كلام السدي في سبب النزول كما سبق.
وأمر المخاطبين صبيانهم بالاستئذان إنما هو من باب التأديب والتعليم، ولا إشكال فيه، ومثله ما روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر».
والثاني: أنّ الأمر للبالغين من المذكورين على وجه التكليف، ولغيرهم على وجه التأديب.
وظاهر الأمر في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} أنّ للوجوب، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. ولكن الجمهور على أنّه أمر استحباب وندب، وأنّه من باب التعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب، فلو دخل المملوك المكلّف على سيده بغير استئذان لم يكن ذلك معصية منه، وإنما هو خلاف الأولى، وإخلال بالأدب. نعم إذا كان يعلم أنّ في دخوله بغير إذن إيذاء لسيده كان دخوله حينئذ حراما، لا من حيث إنه دخل بغير إذن، بل من حيث أنه آذى غيره، وعلى كلا القولين حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة الآتية محكم ليس بمنسوخ ولا مؤقّت بوقت قد انتهى على الصحيح.
وزعم بعض الناس أنّه منسوخ، لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جاريا على خلافه.
وقال آخرون: إنّ طلب الاستئذان كان في العصر الأول إذ لم يكن لهم أبواب تغلق ولا ستور ترخى. تمسّكوا في ذلك بما أخرجه أبو داود عن عكرمة قال: إنّ نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس رضي الله عنهما: كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا بها ولا يعمل بها أحد. قول الله عزّ وجلّ: يا {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو اليتيمة والرجل على أهله، فأمرهم الله تعالى بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور وبالخير فلم أر أحدا يعمل ذلك بعد.
وظاهر قوله تعالى: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} أنّ الحكم خاص بالذكور من العبيد سواء أكانوا كبارا أم صغارا، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد.
والجمهور على أنه عام في الذكور والإناث من الأرقّاء الكبار منهم والصغار.
وعن ابن عباس أنه خاص بالصغار، وهو بعيد. وأبعد منه ما روي عن السلمي من تخصيصه بالإناث.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} كناية عن أنهم قصروا عن درجة البلوغ، ولم يصلوا حدّ التكليف، فالكلام مستعمل في لازم معناه، لأنّ الاحتلام أقوى دلائل البلوغ، وسيأتي لذلك مزيد شرح عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} إن شاء الله.
والجمهور على أنّ المراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان من الذكور والإناث، سواء أكانوا أجانب أم محارم، إلا أنّ قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} يجعل اسم الموصول هنا خاصا بالمراهقين. كما أنّ وصفه بقوله تعالى: {ومِنْكُمُ} يجعله خاصا بالأحرار ويشعر بذلك أيضا ذكره في مقابلة الذين ملكت إيمانكم.
{ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ} الظهيرة وقت الظهر، وقل: شدة الحر عند انتصاف النهار.
وقد اختلف العلماء في إعراب {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} تبعا لاختلافهم في المراد بها.
فالجمهور على أنّها منصوبة على الظرفية، للاستئذان، لأنّ المعنى: ليستأذنكم المذكورون في ثلاثة أوقات: قبل الفجر، ووقت الظهيرة، وبعد صلاة العشاء.
وقال أبو حيان: إنّها مفعول مطلق مبيّن للعدد، لأنّ المعنى: ليستأذنوكم ثلاث استئذانات كما هو الظاهر، فإنّك إذا قلت: ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: «الاستئذان ثلاث».
وعليه يكون قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} إلخ ظرفا لثلاث مرات.
وقد يقال: إنّ رأي أبي حيان يقتضي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات واقعا في كل وقت من الأوقات الثلاثة المذكورة بعده، وليس هذا بمراد، ولعلّ هذا هو الذي حمل الجمهور على العدول عن مقتضى ظاهر اللفظ إلى القول بأنه ظرف أبدل منه الأوقات الثلاثة إبدال مفصّل من مجمل. ولأبي حيان أن يقول: إنّ مجموع الاستئذانات الثلاث واقع في مجموع الأوقات الثلاثة، فلكل وقت استئذانة واحدة، والأمر قريب.
وقوله تعالى: {ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ معناه} أنّ هذه الأوقات الثلاثة السالفة الذكر هي ثلاثة أوقات يختلّ فيها تستركم عادة، فالوقت الأول: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وذلك مظنة انكشاف العورة.
والوقت الثاني: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} وقت يتجردون فيه عن الثياب لأجل القيلولة. والوقت الثالث: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ} وقت يخلعون فيه ثياب اليقظة ويلبسون ثياب النوم، وقد يتعاطون فيه مقدمات المباشرة.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ} الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة أنّه لا إثم في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، فذلك ترخيص في الدخول بغير استئذان في الأوقات الممتدة بين كل وقتين من الأوقات الثلاثة السابقة.
أما الوقتان الواقعان فيما بين صلاة الفجر والظهيرة، وفما بين الظهيرة وصلاة العشاء، فترك الاستئذان فيهما أمر ظاهر، لأنّهما ليسا من أوقات العورة.
وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر فترك الاستئذان فيه غير ظاهر، لأن هذا الوقت وقت نوم يختل فيه التستر عادة، فكان من حقه أن يدخل في أوقات العورة التي لا يباح فيها الدخول بغير استئذان.
وللعلماء في ذلك توجيهات:
منها: أن الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة يفهم منه الأمر بالاستئذان في هذا الوقت من باب أولى، وعليه يكون حكم هذا الوقت كالمستثنى من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ}.
ومنها: أنّه مسكوت عن حكمه لندرة الوارد فيه جدا.
ومنها: أن العادة جارية بأنّ من ورد في هذا الوقت لا يرد حتى يشعر أهل البيت، ويعلمهم بوروده، لما في الدخول هذا الوقت من دون إعلام من التهمة وإساءة الظن.
ولأبي حيان رأي آخر في معنى الجملة، وهو أنّ التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهن فيهن، فتصرّف في الكلام بالحذف والإيصال. فحذف فاعل الاستئذان، وهو الضمير المضاف إليه، وحذف حرف الجر، فصار بعد استئذانهن، ثم حذف المصدر المضاف، فصار بعدهن. وحاصل المعنى عليه: فإذا استأذنوكم في الأوقات الثلاثة، فلا جناح عليكم ولا عليهم. وهذا المعنى وإن كان يدفع الإشكال السابق، إلّا أنّه خلاف الظاهر، والتصرف في الكلمة على هذا النحو تأباه جزالة النظم الجليل.
وقد علمت فيما سبق أنّ الأمر في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} إلخ في ظاهر اللفظ موجّه لمن لم يبلغ الحلم، وهو في الحقيقة أمر لأوليائهم أن يعلّموهم الآداب الحسنة، ويأمروهم بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة، فإذا اعتبر الأمر في ظاهر اللفظ قيل: ليس عليهم جناح بعدهن، وإذا اعتبر المأمورون في الحقيقة قيل: ليس عليكم جناح، واقتصر عليهم. لكنّ النظم الجليل قد روعي فيه الاثنان، فجمعهما في نفي الجناح مبالغة في الإذن بترك الاستئذان بعد الأوقات الثلاثة.
والظاهر أنّ المراد بالجناح المنفي الإثم الشرعي، أي لا إثم عليكم ولا إثم عليهم في دخولهم عليكم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة.
ويفهم منه أنّ على المخاطبين وعلى الصغار الذين لم يبلغوا الحلم إثما إذا دخل هؤلاء الصغار في الأوقات الثلاثة من دون استئذان. وهو مشكل من وجهين:
الأول: أن المخاطبين حمّلوا تبعة فعل غيرهم، مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
والثاني: أنّ الصغار غير مكلّفين، فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي.
والجواب أنّه لا مانع من تأثيم المخاطبين لتركهم تعليم الصغار، وتمكينهم إياهم من الدخول بغير استئذان في أوقات العورات. وإنّ الجناح المنفي عن الصغار الجناح العرفي، بمعنى الإخلال بالأدب والمروءة.
نفت هذه الآية الحرج في دخول المماليك والذين لم يبلغوا الحلم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها} يحظر الدخول بغير استئذان في جميع الأوقات، فكان بين ظاهر الآيتين تعارض. وأصحّ ما دفع به هذا التعارض أنّ الآية السابقة خاصة بالأحرار البالغين، وفي حكمهم مماليك الأجانب. وهذه الآية في الصبيان ومماليك المدخول عليه، فلا تعارض.
ويؤخذ من تعليل الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بأنها أوقات عورة، يختل فيها تسترهم: أن العبرة بتحقق هذا المعنى، بقطع النظر عن خصوص الوقت، فلو كان أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين عليهم فيها كانكشاف عورة ومداعبة زوجة. أو أمة. فإنّه ينبغي أن يستأذن مماليكهم وصبيانهم عليهم ولو كان ذلك في غير الأوقات الثلاثة. لأن المعنى الذي من أجله أمروا بالاستئذان، وهو خشية الاطلاع على العورات متحقق. فالأمر بالاستئذان فيها، ونفي الجناح بعدها جاريان على العادة الغالبة.
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} أي وهم يطوفون عليكم {بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ} أي بعضكم طائف على بعض، فحذف متعلّق الجار، وهو كون خاصّ لدلالة ما قبله عليه.
والجملة الأولى مستأنفة لبيان العذر المرخّص في ترك الاستئذان، أي إن من شأنهم مخالطتكم، والتردد عليكم بالدخول والخروج، فرفع الحرج عنكم وعنهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة. والجملة الثانية مؤكّدة للأولى في بيان الحكمة التي من أجلها رخّص في ترك الاستئذان، إلا أنها أشمل من الأولى، فإنّ معناها أن كلّا منكم لا يستغني عن مخالطة الآخر، فهم طوّافون عليكم، وأنتم طوّافون عليهم. وفي هذا تسلية للمماليك والخدم، بأنّ التعاون في الحياة أمر مشترك بين المالك والمملوك والخادم والمخدوم.
وكان من حق المقابلة أن يقال: طوافون عليكم، وأنتم طوافون عليهم. لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل {بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ} مراعاة لجانب السادة المخدومين، وتلطفا في التعبير عن حاجتهم إلى المماليك والخدم.
وتدل الآية الكريمة على اعتبار العلل في الأحكام الشرعية، لأنّ الله تعالى نبّه على العلة في طلب الاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله جلّ شأنه: {ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ} ونبّه على العذر المبيح لترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة بقوله عزّ اسمه: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ}.
وتدلّ الآية أيضا على أنّ من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح. على وجه التأديب والتعليم، وليعتاده ويتمرّن عليه، ليكون أسهل عليه عند البلوغ. قال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً} [التحريم: 6] روي في تفسيرها أدّبوهم وعلّموهم.
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} معنى تبيين الآيات إنزالها مبينة واضحة الدلالة على معانيها وما قصد منها.
يكثر في القرآن أنّ الله جلّ شأنه بعد أن يذكر الآيات واضحة الدلالة مبيّنة بيانا يشفي الصدور، ويعمر القلوب باليقين والاطمئنان، ويحمل السامع على أن يستيقن أن هذا هو البيان، لا بيان بعده، يردف ذلك بقوله عزّ اسمه {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ} فينبه المخاطبين على أنّ هذه عادة الله في آياته كلّها يبينها البيان الشافي لقوم يعقلون.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} ذو علم شامل لكل معلوم، فيعلم ما يصلح لكم وما لا يصلح {حَكِيمٌ} فيشرع لكم من الأحكام ما يناسبكم، ويكفل لكم السعادة في المعاش والمعاد.